فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال ابن عادل:

قوله تعالى: {الذين يَقُولُونَ} يحتمل أن يكون محلُّه الرفعَ، والنصبَ، والجرَّ، فالرفع من وجهينِ:
أحدهما: أنه مبتدأ محذوف الخبر، تقديره: الذين يقولون كذا مستجاب لهم، أو لهم ذلك الجزاء المذكور.
الثاني: أنه خبر مبتدأ محذوف، كأنه قيل: مَنْ هُمْ هؤلاء المتقون؟ فقيل: الذين يقولون كيت، وكيت.
والنصب من وجه واحدٍ، وهو النصب بإضمار أعني، أو أمدح، وهو نظير الرفع على خبر ابتداء مضمر، ويُسَمَّيَان: الرفع على القطع، والنصب على القطع.
والجر من وجهين:
أحدهما: النعت.
والثاني: البدل، ثم لك- في جعله نَعْتًا أو بَدَلًا- وجهان:
أحدهما: جعله نعتًا لِلَّذِينَ اتَّقَوا، أو بدلًا منه.
والثاني: جعله نعتًا للعباد، أو بدلًا منهم.
واستضعف ابو البقاء جعله نعتًا للعباد، قال: ويضعف أن يكون صفةً للعباد؛ لأن فيه تخصيصًا لعلم اللهِ، وهو جائز- على ضعفه- ويكون الوجه فيه إعلامهم بأنه عالم بمقدار مشقتهم في العبادة، فهو يُجازيهم عليها، كما قال: {والله أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُم} [النساء: 25].
والجملة من قوله: {والله بَصِيرٌ} يجوز أن تكون معترضة، لا محل لها، إذا جعلتَ {الَّذِينَ يَقُولُونَ} تابعًا لـ {الَّذِينَ اتَّقَوا}- نعتًا أو بدلًا-، وإن جعلته مرفوعًا، أو منصوبًا فلا. اهـ.

.قال البيضاوي:

{الذين يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا ءَامَنَّا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النار} صفة للمتقين، أو للعباد، أو مدح منصوب أو مرفوع. وفي ترتيب السؤال على مجرد الإيمان دليل على أنه كاف في استحقاق المغفرة أو الاستعداد لها. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا: {رَبَّنَا إِنَّنَا ءامَنَّا} ثم إنهم قالوا بعد ذلك {فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا} وذلك يدل على أنهم توسلوا بمجرد الإيمان إلى طلب المغفرة والله تعالى حكى ذلك عنهم في معرض المدح لهم، والثناء عليهم، فدل هذا على أن العبد بمجرد الإيمان يستوجب الرحمة والمغفرة من الله تعالى، فإن قالوا: الإيمان عبارة عن جميع الطاعات أبطلنا ذلك عليهم بالدلائل المذكورة في تفسير قوله: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب} وأيضا فمن أطاع الله تعالى في جميع الأمور، وتاب عن جميع الذنوب، كان إدخاله النار قبيحًا من الله عندهم، والقبيح هو الذي يلزم من فعله، إما الجهل، وإما الحاجة فهما محالان، ومستلزم المحال محال، فإدخال الله تعالى إياهم النار محال، وما كان محال الوقوع عقلًا كان الدعاء والتضرع في أن لا يفعله الله عبثًا وقبيحًا، ونظير هذه الآية قوله تعالى في آخر هذه السورة {رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِى للإيمان أَنْ ءامِنُواْ بِرَبّكُمْ فَئَامَنَّا رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفّرْ عَنَّا سيئاتنا وَتَوَفَّنَا مَع الأبرار} [آل عمران: 193].
فإن قيل: أليس أنه تعالى اعتبر جملة الطاعات في حصول المغفرة حيث اتبع هذه الآية بقوله: {الصابرين والصادقين} [آل عمران: 17].
قلنا: تأويل هذه الآية ما ذكرناه، وذلك لأنه تعالى جعل مجرّد الإيمان وسيلة إلى طلب المغفرة، ثم ذكر بعدها صفات المطيعين وهي كونهم صابرين صادقين، ولو كانت هذه الصفات شرائط لحصول هذه المغفرة لكان ذكرها قبل طلب المغفرة أولى، فلما رتب طلب المغفرة على مجرد الإيمان، ثم ذكر بعد ذلك هذه الصفات، علمنا أن هذه الصفات غير معتبرة في حصول أصل المغفرة، وإنما هي معتبرة في حصول كمال الدرجات. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {الذين يقولون} عطف بيان {للذين اتقوا} وصفهم بالتقوى وبالتوجّه إلى الله تعالى بطلب المغفرة.
ومعنى القول هنا الكلامُ المطابق للواقع في الخبرِ، والجاري على فرط الرغبة في الدعاء، في قولهم: {فاغفر لنا ذنوبنا} إلخ، وإنّما يجري كذلك إذا سعى الداعي في وسائل الإجابة وترقّبها بأسبابها التي ترشد إليها التقوى، فلا يُجازَى هذا الجزاءَ من قال ذلك بفمه ولم يعمل لهُ. اهـ.

.قال الطبري:

ومعنى قوله: {الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا}: الذين يقولون: إننا صدّقنا بك وبنبيك وما جاء به من عندك {فاغفر لنا ذنوبنا}، يقول: فاستر علينا ذنوبنا، بعفوك عنها، وتركك عقوبتنا عليها {وقنا عذاب النار}، ادفع عنا عذابك إيانا بالنار أن تعذبنا بها. وإنما معنى ذلك: لا تعذبنا يا ربنا بالنار.
وإنما خصّوا المسألةَ بأن يقيهم عذاب النار، لأن من زُحزح يومئذ عن النار فقد فاز بالنجاة من عذاب الله وحسن مآبه.
وأصل قوله: {قنا} من قول القائل: وقى الله فلانًا كذا، يراد: دفع عنه، فهو يقيه. فإذا سأل بذلك سائلٌ قال: قِنِى كذا. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من فوائد الشعراوي:
قال رحمه الله:
{الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.
إن قولهم: {رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا} هو أول مرتبة للدخول على باب الله، فكأن الإيمان بالله يتطلب رعاية من الذي تلقى التكليف لحركة تفسه، لأن الإيمان له حق يقتضي ذلك، كأن المؤمن يقول: أنا ببشريتي لا أستطيع أن أوفى بحق الإيمان بك، فيارب اغفر لي ما حدث لي فيه من غفلة، أو من زلة، أو من كبر، أو من نزوة نفس.
وهذا الدعاء دليل على أنه عرف مطلوب الإيمان كما أوضحه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيانه لمعنى الإحسان حين قال: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك».
كأن تستحضر الله في كل عمل؛ لأنه يراك.
وهل يتأتى لواحد من البشر أن يجترئ على محارم من يراه بعينه؟ حينئذ يستحضر المؤمن ما جاء إلينا من مأثور القول، فكأنه سبحانه وتعالى يوجه إلينا الحديث: يا عبادي إن كنتم تعتقدون أني لا أراكم، فالخلل في إيمانكم. وكنتم تعتقدون أني أراكم فلم جعلتموني أهون الناظرين إليكم؟
وكأن الحق سبحانه يقول للعبد: هل أنا أقل من عبيدي؟ أتقدر أن تسيء إلى أحد وهو يراك؟ إذن فكيف تجرؤ على الإساءة لخالقك؟
إن قول المؤمنين: {إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا} دليل على أنهم علموا أن الإيمان مطلوباته صعبة.
{الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} فلنر على ماذا رتبوا غفران الذنب؟ لقد رتبوا طلب غفران الذنب على الإيمان. لماذا؟ لإنه مادام الحق سبحانه وتعالى قد شرع التوبة، وشرع المغفرة للذنب، فهذا معناه أنه سبحانه قد علم أزلا أن عباده قد تخونهم نفوسهم، فينحرفون عن منهج الله.
ويختم الحق سبحانه الآية بقوله على ألسنة المؤمنين: {وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} لأنه ساعة أن أعلم أن الحق سبحانه وتعالى ضمن لي بواسع مغفرته أن يستر عليّ الذنب، فإن العبد قد يخجل من ارتكاب الذنب، أو يسرع بالاستغفار.
ولماذا لا يكون قوله: {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} بمعنى استرها يارب عنا فلا تأتي لنا أبدا؟ وإن جاءت فهي محل الاستغفار والتوبة. فإذا أذنبت ذنبا، واستغفرت ربي، وعلمت أن ربي قد أذن بالمغفرة؛ لأنه قال: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ أنه كَانَ غَفَّارًا} [نوح: 10].
فإن الوجل يمتنع، والخوف يذهب عني، وأقبل على الله بمحبة على تكاليفه وأحمل نفسي على تطبيق منهج الله كله. ولذلك حينما شرع الله الحق سبحانه وتعالى للخلق التوبة كان ذلك رحمة أخرى. وهذه الرحمة الأخرى تتجلى في المقابل والنقيض.
هب أن الله لم يشرع التوبة وأذنب واحد ذنبا، وبمجرد أن أذنب ذنبا خرج من رحمة الله فماذا يصيب المجتمع منه؟ إن كل الشرور تصيب المجتمع من هذا الإنسأن لانه فقد الأمل في نفسه، أما حينما يفتح الله له باب التوبة فإن ارتكب العبد ذنبا ساهيا عن دينه، فإن يرجع إلى ربه.
وتلك واقعية الدين الإسلامي، فليس الدين مجرد كلام يقال، ولكنه دين يقدر الواقع البشري، فإنه سبحانه يعلم أن العباد سيرتكبون الذنوب، فيرسم لهم أيضا طريق الإستغفار. وإذا ما ارتكب العباد ذنوبا، فإن الحق يطلب منهم أن يتوبوا عنها. وأن يستغفروا الله. فإذا ما لذعتهم التوبة حينما يتذكرون الذنب فإن هذه اللذعة كلما لذعتهم أعطاهم الله حسنة.
كأن غفران الذنب شيء، والوقاية من النار شيء آخر. كيف؟ لأنه ساعة أن يعلم العبد أن الحق سبحانة وتعالى ضمن للعبد مغفرته، وهو الخالق المربي، فإن العبد يذهب إلى الله مستغفرا طامعا في المغفرة والرحمة. إنها دعوة المؤمنين إن كانوا قد نسوا أن يستغفروا لأنفسهم. لماذا؟ لأن الاستغفار من الذنب تكليف من الله. وكما قلنا: إن الإنسان قد ينسى بعضا من التكاليف، لذلك فمن الممكن أن يسهو عن الاستغفار، ولذا يقول الحق على ألسنة عباده المؤمنين: {وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.
ومعنى التقوى أن تجعل بينك وبين النار وقاية، أو تجعل بينك وبين غضب ربك وقاية، فإذا ما أخذت النعم من الله لتصرفها في منهج الله تكون حسنة لك، وقلنا: إن اتقوا الله واتقوا النار ملتقيتان، لأن معنى اتقوا النار كي لا تصيبكم بأذى، اتقوا الله تعني أن نضع بيننا وبين غضب الله وقاية، لأن غضب الله سيأتي.
وبعد ذلك يقول الحق: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ}. اهـ..

.تفسير الآية رقم (17):

قوله تعالى: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
قال الحرالي: ولما وصف تقوى قلوبهم باطنًا وأدب مقالهم ظاهرًا وصف لهم أحوال أنفسهم ليتطابق ظاهر أمرهم بمتوسطه وباطنه فقال: {الصابرين} فوصفهم بالصبر إشعارًا بما ينالهم من سجن الدنيا وشدائدها، والصبر أمدح أوصاف النفس، به تنحبس عن هواها وعما زين من الشهوات المذكورة بما تحقق من الإيمان بالغيب الموجب لترك الدنيا للآخرة فصبروا عن الشهوات؛ أما النساء فبالاقتصار على ما ملكوه وأما البنون فبمراعاة أن ما تقدم خير مما تأخر، قال صلى الله عليه وسلم- يعني فيما رواه ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه لسقط أقدمه بين يدي أحب إليَّ من فارس أخلفه خلفي.
وأما الذهب والفضة فبالنظر إليها أصنامًا يضر موجودها، وبالحري أن ينال منها السلامة بنفقة لا يكاد يصل إنفاقها إلى أن يكون كفارة كسبها وجمعها، فكان الصبر عنها أهون من التخلص منها؛ وأما الخيل فلما يصحبها من التعزز الممد لخيلاء النفس الذي هو أشد ما على النفس أن تخرج عن زهوها وخيلائها إلى احتمال الضيم والسكون بحب الذل، يقال: أنه آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين حب الرئاسة؛ وأما الأنعام فبالاقتصار منها على قدر الكفاف، لأن كل مستزيد تمولًا من الدنيا زائدًا على كفاف منه من مسكن أو ملبس أو مركب أو مال فهو محجر على من سواه من عباد الله ذلك الفضل الذي هم أحق به منه، قال صلى الله عليه وسلم: «لنا غنم مائة لا نريد أن تزيد» الحديث {وإن من شيء إلا عندنا خزائنة وما ننزله إلا بقدر معلوم} [الحجر: 21]؛ وأما الحرث فبالاقتصار منه على قدر الكفاية لما يكون راتبًا للإلزام ومرصدًا للنوائب ومخرجًا للبذر، فإن أعطاه الله فضلًا أخرجه بوجه من وجوه الإخراج ولو بالبيع، ولا يمسكه متمولًا لقلبه إلى غيره من الأعيان فيكون محتكرًا، قال عليه الصلاة والسلام كما أخرجه أحمد وأبو يعلى عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما «من احتكر أربعين يومًا فقد برئ من الله وبرئ الله منه».
فبذلك يتحقق الصبر بحبس النفس عما زين للناس من التمولات من الدنيا الزائدة على الكفاف التي هي حظ من لا خلاق له في الآخرة، ولذلك يحق أن تكون هذه الكلمات معربة بالنصب مدحًا، لأن الصفات المتبعة للمدح حليتها النصب في لسان العرب، وإنما يتبع في الإعراب ما كان لرفع لبس أو تخصيص- انتهى.
ولما كان سن التقوى فوق سن الإيمان عطف أمداحهم كلها بالواو إيذانًا بكمالهم في كل وصف منها وتمكنهم فيءه بخلاف ما في آية براءة على ما سيأتي إن شاء الله تعالى فقال: {والصادقين} قال الحرالي: في عطف الصفات ما يؤذن بكمال الوصف لأن العرب تعطفها إذا كملت وتتبع بعضها بعضًا إذا تركبت والتأمت، يعني مثل: الرمان حلو حامض- إذا كان غير صادق الحلاوة ولا الحموضة، ففي العطف إشعار بكمال صبرهم عن العاجلة على ما عينه حكم النظم، في الآية السابقة، ومن شأن الصابر عن الدنيا الصدق، لأن أكثر المداهنة والمراءاة إنما ألجأ إليها التسبب إلى كسب الدنيا، فإذا رغب عنها لم يحمله على ترك الصدق حامل قيتحقق به فيصدق في جميع أموره والصدق مطابقة أقواله وأفعاله لباطن حاله في نفسه وعرفان قلبه- انتهى {والقانتين} أي المخلصين لله في جميع أمورهم الدائمين عليه.
ولما ذكر سبحانه وتعالى العمل الحامل عليه خوف الحق ورجاؤه أتبعه ما الحامل عليه ذلك مع الشفقة على الخلق، لأن من أكرم المنتمي إليك فقد بالغ في إكرامك فقال: {والمنفقين} أي ما رزقهم الله سبحانه وتعالى في كل ما يرضيه، فإنه لا قوام لشيء من الطاعات إلا بالنفقة.
قال الحرالي: فيه إشعار بأن من صبر نوّل، ومن صدق أعلى، ومن قنت جل وعظم قدره، فنوله الله ما يكون له منفقًا، والمنفق أعلى حالًا من المزكي، لأن المزكي يخرج ما وجب عليه فرضًا، والمنفق يجود بما في يده فضلًا- انتهى.
ولما ذكر هذه الأعمال الزاكية الجامعة العالية أتبعها الإشارة إلى أن الاعتراف بالعجز عن الوفاء بالواجب هو العمدة في الخلاص: {والمستغفرين} أي من نقائصهم مع هذه الأفعال والأحوال التي هي نهاية ما يصل إليه الخلق من الكمال {بالأسحار} التي هي أشق الأوقات استيقاظًا عليهم، وأحبها راحة لديهم، وأولاها بصفات القلوب، وأقربها إلى الإجابة المعبر عنها في الأحاديث بالنزول كما يأتي بيانه في آية التهجد في سورة الإسراء.
قال الحرالي: وهو جمع سحر، وأصل معناه التعلل عن الشيء بما يقاربه ويدانيه ويكون منه بوجه ما، فالوقت من الليل الذي يتعلل فيه بدنو الصباح هو السحر، ومنه السحور، تعلل عن الغداء؛ ثم قال: وفي إفهامه تهجدهم في الليل كما قال سبحانه وتعالى: {كانوا قليلًا من الّيل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون} [الذاريات: 17، 18] فهم يستغفرون من حسناتهم كما يستغفر أهل السيئات من سيئاتهم تبرؤًا من دعوى الأفعال ورؤية الأعمال التئامًا بصدق قولهم في الابتداء: {ربنا إننا آمنا} وكمال الإيمان بالقدر خيره وشره، فباجتماع هذه الأوصاف السبعة من التقوى والإيمان والصبر والصدق والقنوت والإنفاق والاستغفار كانت الآخرة خيرًا لهم من الدنيا وما فيها، وقد بان بهذا محكم آيات الخلق من متشابهها بعد الإعلام بمحكم آيات الأمر ومتشابهها، فتم بذلك منزل الفرقان في آيات الوحي المسموع والكون المشهود- انتهى.
ولعله سبحانه وتعالى أشار بهذه الصفات الخمس المتعاطفة إلى دعائم الإسلام الخمس، فأشار بالصبر إلى الإيمان، وبالصدق إلى الزكاة المصدقة لدعواه، وبالقنوت الذي مدار مادته على الإخلاص إلى الصلاة التي هي محل المراقبة، وبالإنفاق إلى الحج الذي أعظم مقوماته المال، وبالاستغفار إلى الصيام الذي مبناه التخلي من أحوال البشر والتحلي بحلية الملك لاسيما في القيام ولاسيما في السحر؛ وسر ترتيبها أنه لما ذكر ما بين العبد والخالق في التوحيد الذي هو العدول أتبعه ما بينه وبين الخلائق في الإحسان، ولما ذكر عبادة القلب والمال ذكر عبادة البدن الدالة على الإخلاص في الإيمان، ولما ذكر عبادة البدن مجردًا بعد عبادة المال مجردًا ذكر عبادة ظاهرة مركبة منهما، شعارها تعرية الظاهر، ثم أتبعه عبادة بدنية خفية، عمادها تعرية الباطن، فختم بمثل ما بدأ به، وهو ما لا يطلع عليه حق الاطلاع إلا الله سبحانه وتعالى. اهـ.